فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسنًا! ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية، فيعدو معه في الطريق! ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة!
{وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا}.
وحين يرتسم المشهد على هذا النحو، والعدو القديم يفتل الحبال. ويضع الفخ، ويستدرج الفريسة، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق، وإلى أية هوة تُستهوى!
وبينما هذه اللمسة الموقظة تفعل فعلها في النفوس، وتصور حقيقة المعركة، وحقيقة الموقف، يجيء التعقيب ببيان العاقبة في نهاية المطاف: عاقبة من يستهويهم الشيطان، ويصدق عليهم ظنه.
وينفذ فيهم ما صرح به من نيته الشريرة.. وعاقبة من يفتلون من حبالته، لأنهم آمنوا بالله حقًا. والمؤمنون بالله حقًا في نجوة من هذا الشيطان لأنه- لعنة الله عليه- وهو يستأذن في إغواء الضالين، لم يؤذن له في المساس بعباد الله المخلصين. فهو إزاءهم ضعيف ضعيف؛ كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين:
{ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا. يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلاّ غرورًا. أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصًا. والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًا ومن أصدق من الله قيلًا}.
فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان.. وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء الله.. وعد الله: {ومن أصدق من الله قيلا}؟
والصدق المطلق في قول الله هنا؛ يقابل الغرور الخادع، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك! وشتان بين من يثق بوعد الله، ومن يثق بتغرير الشيطان!
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولًا إلى الأماني. إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم- فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر- وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة. ولا محاباة في هذا ولا مماراة: {ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب. من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا.. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلًا}.
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: {نحن أبناء الله وأحباؤه} وكانوا يقولون: {لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة} وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار!
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس. وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون.
فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده. ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد. هو إسلام الوجه لله- مع الإحسان- واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام. إبراهيم الذي اتخذه الله خليلًا.
فأحسن الدين هو هذا الإسلام- ملة إبراهيم- وأحسن العمل هو «الإحسان».. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها، وحد الشفرة؛ حتى لا تعذب وهي تذبح!
وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة؛ في موقفهما من العمل والجزاء؛ كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل، وهو الإيمان بالله:
{ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا}.
وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة- من ذكر أو أنثى. كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل. وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان. ولا يصاحبه الإيمان. وذلك طبيعي ومنطقي. لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم؛ كما يجعله حركة طبيعية مطردة، لا استجابة لهوى شخصي، ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة.
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء «عم» عند قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم. بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تمامًا. وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي- رحمه الله. وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم (الجزء الثلاثين من الظلال).
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
{ومن يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا}.
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية؛ ويعرفون أنها لابد أن تعمل سوءًا. مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات.
كانوا يعرفون النفس البشرية- كما هي في حقيقتها- وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم.. لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانًا، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه. ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به. ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلًا ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم. أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلًا بمشاعرهم كأنهم فيها. لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد!
قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول، الله كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به}.. فكل سوء عملناه جزينا به.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك يا أبا بكر. ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟» قال بلى! قال: «فهو مما تجزون به». ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثوري عن إسماعيل.
وروى أبو بكر بن مردويه- بإسناده- إلى ابن عمر، يحدث عن أبي بكر الصديق. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ألا أقرئك آية نزلت علي؟» قال: قلت يا رسول الله فأقرأنيها.. فلا أعلم أني قد وجدت انفصامًا في ظهري، حتى تمطيت لها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالك يأ أبا بكر فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب. وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» (وكذا رواه الترمذي).
وروى ابن أبى حاتم بإسناده عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن. فقال: «ما هي يا عائشة؟» قلت: {من يعمل سوءًا يجز به} فقال. «ما يصيب العبد المؤمن، حتى النكبة ينكبها» (ورواه ابن جرير).
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة- بإسناده- «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {من يعمل سوءًا يجز به} شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة. حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها».
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء. ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى. ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدًا. ويعرفون صدق وعد الله حقًا. ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا.
وفي الختام يجيء التعقيب على قضية العمل والجزاء، وقضية الشرك قبلها والإيمان، برد كل ما في السماوات والأرض لله، وإحاطة الله بكل شيء في الحياة وما بعد الحياة:
{ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطًا}.
وإفراد الله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيرًا إفراده سبحانه بالملك والهيمنة- والسلطان والقهر، فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله. وإنما هو توحيد إيجابي. توحيد الفاعلية والتأثير في الكون، وتوحيد السلطان والهيمنة أيضًا.
ومتى شعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض.
وأنه بكل شيء محيط، لا يند شيء عن علمه ولا عن سلطانه.. كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة؛ وإلى محاولة إرضائه باتباع منهجه وطاعة أمره.. وكل شيء ملكه. وكل شيء في قبضته. وهو بكل شيء محيط.
وبعض الفلسفات تقرر وحدانية الله. ولكن بعضها ينفي عنه الإرداة. وبعضها ينفي عنه العلم. وبعضها ينفي عنه السلطان. وبعضها ينفي عنه الملك.. إلى آخر هذا الركام الذي يسمى «فلسفات!».. ومن ثم يصبح هذا التصور سلبيًا لا فاعلية له في حياة الناس، ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم؛ ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم.. كلام! مجرد كلام!
إن الله في الإسلام، له ما في السموات وما في الأرض. فهو مالك كل شيء.. وهو بكل شيء محيط. فهو مهيمن على كل شيء.. وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير. ويصلح السلوك. وتصلح الحياة.. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}
وسبحانه أوضح في آية سابقة أنه لا ولي ولا نصير للكافرين أو للمنافقين.
ويؤكد لنا المعنى هنا: إياكم أن تظنوا أن هناك مَهْرَبًا أو محيصًا أو معزلًا أو مفرًا؛ فلله ما في السموات وما في الأرض، فلا السموات تُؤِوي هاربًا منه، ولا مَن في السموات يعاون هاربًا منه، وسبحانه المحيط علمًا بكل شيء والقادر على كل شيء. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْعَرَبُ لَا نُبْعَثُ وَلَا نُحَاسَبُ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَقَالُوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: احْتَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} الْآيَةَ، فَأَفْلَجَ اللهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.